كتب الدكتور عبداللطيف المناوي أن التطورات الأخيرة في غزة وضعت مصر أمام تحدٍّ استثنائي، إذ بات القطاع أقرب من أي وقت مضى إلى الانهيار الكامل. حجم الدمار، تدهور البنية التحتية، وتصاعد معاناة السكان، يجعل أي تصعيد جديد كارثة مركّبة تهدد بانفجار إقليمي.
وفقًا لتحليل صحيفة عرب نيوز، فإن موقع مصر كجارٍ جنوبي لغزة يمنحها دورًا حاسمًا في كل سيناريو محتمل، سواء باتجاه التصعيد أو احتوائه. القاهرة تتعامل مع الملف بحذر شديد، موازنةً بين التزاماتها الاستراتيجية ومبادئها الوطنية. فهي تحافظ على معاهدة السلام مع إسرائيل وتنسّق أمنيًا معها في سيناء، لكنها في الوقت ذاته ترفض تحمّل عبء غزة، وتؤكد أنها أرض فلسطينية محتلة.
منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023، تصدّت مصر لمحاولات تهجير سكان غزة نحو سيناء، ورفضت تولي أي دور إداري أو أمني في القطاع ما لم يندرج ضمن إطار سياسي واضح نحو حل الدولتين. كما استضافت قمة دولية وسعت لفتح المعابر وتنسيق الهدنات.
قلق القاهرة يتضاعف من احتمال أن تسعى إسرائيل إلى تصدير "أزمتها في غزة" إلى مصر، سواء عبر الضغط لفتح الحدود أو عبر احتلال ممر فيلادلفيا الحدودي، وهو ما اعتبرته مصر انتهاكًا صريحًا لمعاهدة السلام.
أصبح معبر رفح، المنفذ الوحيد غير الإسرائيلي لغزة، شريان الحياة الأخير. ورغم بقائه مغلقًا لفترات طويلة أو مفتوحًا بشكل جزئي للمساعدات والإخلاء، حافظت مصر على موقفها الرافض لاستقبال اللاجئين. أنشأت مستشفى ميدانيًا، استقبلت جرحى، وسهّلت دخول المساعدات، لكنها رفضت إقامة أي مخيمات على أراضيها.
التصعيد في غزة لن يبقى محصورًا داخلها. العلاقات المصرية الإسرائيلية توترت بشدة منذ بدء الحرب، خاصة بسبب تبادل الاتهامات حول معبر رفح والتلميحات الإسرائيلية المتكررة حول ترحيل الفلسطينيين.
مع كل هذا التعقيد، برزت مصر كقوة محورية في إدارة الأزمة. واصلت التواصل مع جميع الأطراف عبر جهاز المخابرات العامة ووزارة الخارجية، بدءًا من إسرائيل وحماس والسلطة الفلسطينية، مرورًا بالولايات المتحدة وقطر وتركيا، وصولًا إلى الدول الأوروبية.
اتبعت مصر خطابًا مزدوجًا: نبرة هادئة أمام الغرب تركز على القانون الدولي وأولوية الإغاثة، وخطابًا حادًا أمام الرأي العام العربي يحمل إسرائيل مسؤولية الكارثة ويرفض أي مساس بسيادة سيناء.
الرأي العام المصري يتعاطف بشدة مع معاناة الفلسطينيين، لكنه يرفض بشكل واسع أي فكرة لفتح الحدود أمام النزوح، إدراكًا لما يشكله ذلك من خطر أمني مباشر وإمكانية انزلاق مصر إلى صراع طويل الأمد.
تواجه القاهرة ضغوطًا دولية مستمرة، لا سيما من الولايات المتحدة، لقبول حلول مؤقتة تشمل استقبال لاجئين بشكل محدود، لكنها تظل صلبة في موقفها: لا لإعادة التوطين، لا لمخيمات، ولا لأي تنازلات على الحدود. وتمكّنت مصر من حشد دعم عربي ودولي لهذا الموقف، بل وانتزعت اعترافًا من واشنطن وبروكسل بأن سيناء ليست خيارًا مطروحًا.
يرسم الكاتب ثلاث سيناريوهات ممكنة في حال انفجر الوضع مجددًا:
السيناريو الأول: تصعيد محدود وقصير الأمد، يتم احتواؤه بوساطة إقليمية ودولية تقودها مصر وقطر والولايات المتحدة. ورغم الكلفة الإنسانية العالية، يُعد هذا الخيار الأفضل لتجنّب الانهيار الكامل.
السيناريو الثاني: حرب شاملة طويلة المدى، تشمل اجتياحًا بريًا أو احتلالًا مؤقتًا لمناطق من غزة، ما قد يؤدي إلى تدفق كبير للمدنيين نحو حدود مصر. في هذه الحالة، تواجه القاهرة ضغطًا هائلًا بين واجبها الأخلاقي ومصالحها الأمنية، وقد تنهار التهدئة مع إسرائيل وتُهدد معاهدة السلام.
السيناريو الثالث: تصعيد يؤدي إلى حراك دولي واسع لوقف دائم لإطلاق النار، يعقبه إعادة إعمار وإطلاق عملية سياسية. يمكن لمصر حينها التعاون مع دول عربية لإنشاء إطار انتقالي يُضعف حماس عسكريًا، ويمكّن السلطة الفلسطينية من إدارة القطاع، وربما تشارك في قوة عربية دولية لضمان المعابر أو تدريب قوات الأمن.
تقف مصر اليوم في قلب معادلة غزة: ليست طرفًا مباشرًا في الحرب، لكنها أول من يتلقى ارتداداتها. أي انفجار جديد قد يهز استقرارها الداخلي ويستنزف مواردها. تسعى القاهرة لتحويل الأزمة إلى فرصة تدفع نحو حل سياسي حقيقي، يتجاوز إدارة الأزمة إلى معالجة جذورها.
وفي كل سيناريو، تبقى الأنظار مشدودة نحو القاهرة: هل تنجح مجددًا في إخماد النيران، أم تسقط فجأة في قلب اللهيب؟
https://www.arabnews.com/node/2609910